في زمنٍ لم يعد فيه الفرق واضحًا بين الحقيقة والصورة، وبين اللحظة والمعروضة، وجدنا أنفسنا نعيش على هامش الحياة. لم نعد نُجرب، لم نعد نخطئ، لم نعد نتفاعل كما اعتاد الإنسان منذ آلاف السنين. بل صرنا نُشاهد. نشاهد كل شيء.. حتى أنفسنا.
لقد أصبحت التجربة الإنسانية مفلترة، مُعلّبة، وجاهزة للاستهلاك. نفتح هواتفنا فنجد "رحلة العمر" مصورة بالكامل، من لحظة الصعود إلى الطائرة حتى لحظة الهبوط على البحر. نرى الحفلات، اللقاءات، الضحكات، والدموع، لكنها كلها تمرّ أمامنا مثل شريط مصور، بلا رائحة، بلا إحساس، بلا معنى حقيقي.
في السابق، كان الإنسان يغامر، يضيع في الطريق، يتعارك مع المجهول، ثم يعود ممتلئًا بالحكاية. أما اليوم، فكل شيء موثّق، مرتب، محفوظ في ذاكرة رقمية لا تنسى.. لكنها أيضًا لا تشعر. صرنا نلتقط اللحظة بدلاً من أن نعيشها. نُخرج الكاميرا قبل أن نُخرج الدهشة من أعيننا.
الفراغ المعبأ بالصخب
ما أكثر ما يحيط بنا! مقاطع، صور، قصص، ومئات "الستوريز" يوميًا. لكن الغريب أن هذا الزخم لم يملأ أرواحنا، بل وسّع فراغها. نتابع أعمار الآخرين وهي تمضي أمامنا ونحن جالسون، نُراقب، نُعلّق، ونظن أننا نعيش.
تغرق الأجيال الجديدة في متاهة العرض المستمر، وكلما زاد وقت الشاشة، قلّ وقت الذات. أصبح الانشغال بالمظهر سجنًا، وأصبح التفاعل من خلف الشاشة بديلاً خادعًا عن التواصل الحقيقي. لم نعد نكتب رسائل، بل نُرسل "إيموجي". لم نعد نسأل "كيف حالك؟"، بل نكتفي برؤية "الستوري" لنُخمّن كيف يشعر الآخر.
جيل يتنفس بلا حياة
نعيش كما لو أننا على قيد الاتصال، لكننا في الحقيقة على هامش الوجود. نتحرك بسرعة، نستهلك بلا وعي، نُتابع كل شيء إلا أنفسنا. نحن جيلٌ يتنفس.. لكنه لا يعيش. جيل يحفظ الأغاني، ويجهل صوته الداخلي.
صرنا نُشبه الشاشات التي أمامنا: مضيئة من الخارج، فارغة من الداخل. نبدو مشغولين دائمًا، لكن لا أحد يعرف بماذا.
نضحك بصوت عالٍ على "ريلز"، ثم نغفو بقلق لا نفهم مصدره. نُظهر السعادة، ونخفي التيه. فهل هذه حياة.. أم محاكاة سيئة لها؟
حين يُصبح الحلم محتوى
حتى أحلامنا، صارت تُفصّل على مقاس ما يمكن مشاركته. لم نعد نرغب بالحياة في كوخ صغير بسلام، بل نرغب بصورة الكوخ على "إنستغرام". لم نعد نحلم بالحب، بل نحلم بلقطة فيديو رومانسية تنتشر. لم نعد نخطط للنجاح ببطء، بل نرغب في أن نُصبح "ترند" فجأة.
وهكذا، وبلا مقاومة، تسللت إلينا ثقافة المشاهدة. لم نعد نسأل أنفسنا: ماذا أريد أن أعيش؟ بل: ماذا يمكنني أن أُظهر؟ أصبحنا ممثلين في مسلسل طويل بلا نهاية، نُعيد فيه المشاهد ألف مرة حتى تظهر بشكل مثالي.. لكن من قال إن الحياة مثالية أصلًا؟
استعادة الحياة الحقيقية
ليست هذه دعوة ضد التكنولوجيا، بل هي أداة عظيمة إن استخدمناها بوعي وفهم. بل هي دعوة إلى استعادة العمق، إلى استنشاق الحياة من دون عدسة، إلى النظر في أعين من نُحب لا عبر الشاشات، إلى المشي في الطرقات من دون أن نُفكر في التصوير، إلى أن نُخطئ، ونتوه، ونسأل الغرباء، ونعيش حقًا.
دعوة لأن نجعل من اللحظة تجربة، لا منشورًا. ومن المشاعر واقعًا، لا تعليقًا. دعوة لأن نُبطئ، لأن نُعيد لقلوبنا سرعتها الطبيعية، وأن نعيش الحياة كما هي: غير مثالية، مليئة بالمفاجآت، لكنها حقيقية.
في النهاية، نحن لا نطلب المستحيل، بل نطلب أن نُعيد لأنفسنا ما سُرق منا بهدوء: القدرة على العيش بدل المشاهدة.
فالحياة بكل ما فيها، لا يمكن أن تُختصر في شاشة.. ولا أن تُعاش من بعيد.
تجربتي الشخصية: هروب نحو الراحة
قررت أن أحذف جميع تطبيقات التواصل الاجتماعي من هاتفي، خطوة بدت للبعض جريئة وربما غريبة. لكنني بعد أيام قليلة شعرت بشيء لم أعهده منذ زمن: راحة نفسية عميقة.
صرت أتنفس بحرية أكثر، أعيش اللحظة بلا مقاطعة، وأتحدث مع نفسي وأفكاري دون تشويش. لم أعد مأسورًا لشاشات تسرق وقتي وحواسي، بل صرت أملك الهدوء بدا وكأنه نادرًا في عالمنا اليوم.
هذه التجربة، رغم بساطتها، كانت بمثابة إعادة ولادة صغيرة، وأدعو كل من يشعر بثقل العصر الرقمي أن يجربها.