بينما تُعَرَّف الرواية الجيدة في كثير من الأحيان بافتتاحيتها، تعرف الأفلام القوية البناء بلقطاتها الأولى التي تحمل الكثير من جينات الحكاية أو السردية التي يحملها الفيلم على أكتاف شريطة الضوئي.
في محاولة منا لتعميق العلاقة بين المشاهد والفيلم على مستوى التورط الشعوري أو الانجذاب الذهني تجاه المادة المعروضة يمكن أن نطرح فرضية وجود ارتباط جيني قوي بين مقدمة الفيلم أو افتتاحيته وبين متن الفيلم ككل، حتى إننا في أي مشهد من أي فصل من فصول الفيلم يمكن أن نتوقف ونمد خط العلاقة بين اللقطة الأولى أو المشهد الأول وبين المشهد المختار لنجد أن افتتاحية الفيلم تلقي بظلالها، أو تتماس أو تتصل بشكل عضوي مع كل المشاهد ودون افتعال أو إكراه نقدي.
في البدء يمكن أن نستعرض سريعاً ماهية افتتاحيات الأفلام أو مقدماتها المقصودة في سياق فرضيتنا المطروحة!
من المعروف أن المشاهد المخلص أو السينيفيلي الشغوف يفضل دوما أن يدخل في الضوء، ويجلس في الظلام.
بمعنى أن يدخل إلى قاعة العرض والأضواء لا تزال ساطعة تكشف أرقام الكراسي وشكل الصفوف، والمقصود بالطبع الدخول قبل أن بداية الفيلم بوقت كاف، أما الجلوس في الظلام، فيعني فعل المشاهدة الاستغراقي في الشاشة الكبيرة، بينما الكل قابع في كرسيه منجذب بحواس التلقي المختلفة نحو المادة المعروضة.
لا يوجد سينيفيلي مخلص، سواء كان هاوياً أو متخصصاً يشعر بالارتياح حين تفوته لقطة واحدة من أي فيلم طالما أمسكت الشاشة بوعيه ولاوعيه مجتمعين.
ولما كان الفيلم هو نحت تراكمي في الزمن، ولما كانت مادته غير قابلة للاستعادة خلال فعل التلقي – في دار العرض، وليس من خلال أشكال العرض المنزلي- على عكس الرواية مثلاً- التي يمكن الرجوع في أي لحظة إلى أي فصل أو صفحة أو حتى جملة فيها- فبالتالي تشكل افتتاحيات الأفلام عنصر مهم جداً في التعرف على عوالمها المختلفة، ليس فقط فيما يتعلق بالقصة أو الحكاية، ولكن على مستوى الحالة البصرية والإيقاع والمقاربة ولحظة الهجوم والتهيئة.
ولكن ما هي افتتاحيات الأفلام؟ وهل هناك شكل محدد أو ثابت لها! وهل المقصود بها اللقطة أو اللقطات الأولى في الفيلم! أم المشهد الأول! وهل تعتبر شارة البداية – التغيرات أو العناوين- ضمن الافتتاحيات! أم أنها تصنف بمفردها بعيداً عن الدراما والصورة!
في الحقيقة، فإن كل ما سبق يمكن أن نطلق عليه افتتاحية الفيلم! دون تقنين زمني أو نوعي ثابت! فما يحكم شعورنا بافتتاحية الفيلم أو بدايته هو تضافر مجموعة من العناصر البنائية والدرامية في إطار زمني محدد بإيقاع خاص الغرض منه توصيل فكرة أو شعور إلى المشاهد، من أجل تحفيز حواس التلقي للانتباه، واستغلال الزمن الفيلمي المتاح في عرض الأفكار والمجازات، والاشتباك منذ أول لقطة – تمثيلية كانت أو مجرد عناوين مصحوبة بموسيقى أو غناء- مع ما يود العمل السينمائي طرحه جمالياً وفكرياً.
على سبيل المثال؛ يقدم لنا فرانسيس فورد كوبولا في اللقطة الأولى من فيلمه الشهير (القيامة الآن) مجموعة من الأشجار الخضراء، اليانعة، المزهوة بالخصوبة، ثم فجأة تمر من أمامها طائرة مروحية حربية كحشرة أو ذبابة ضخمة، ومع مرور الطائرة يتصاعد دخان برتقالي لا يلبث أن يزداد بالتدريج، وبعد المرور الثاني للطائرة بأقل من ثوان تشتعل الشجرات الجميلة بنيران جحيمية برتقالية بشكل همجي، بينما شريط الصوت يتزامن بمؤثر لصوت مروحية الطائرة، ثم تبدأ أغنية فريق The doors بعنوان النهاية، والتي يقول الكوبليه الأول فيها أنها النهاية يا صديقي.
لو توقفنا أمام هذه اللقطة التي لا تستغرق دقيقتين على الشاشة في بداية الفيلم يمكن أن نرصد دقة البناء الذي قدمه صناع العمل الأيقوني كتابة وإخراج وتصوير وصوت، فاللقطة تختصر كامل الأزمة التي يطرحها الفيلم، ومجمل الصراع النفسي والفكري والحضاري الذي تقدمه رحلة البطل للوصول إلى المجموعة المنشقة التي يحكمها ضابط سابق يدعي الألوهية بعد أن أصابه اليقين من أن بلده العظمى أمريكا هي أصل الشر في العالم الحديث وأن ما تفعله طائراتها الحربية/ آلتها العسكرية في الأشجار/فيتنام /العالم، هو الدمار والحريق والجحيم بذاته المشتعلة، وليس لهذا شأن بما تدعيه من تحضر ونشر للحرية والعدالة والسلام!
كجزء من اختبار قوة الافتتاحية يمكن للمشاهد أن يتوقف عند أي مشهد من مشاهد الفيلم في أي فصل من فصوله، ويستعيد الافتتاحية التي يختلط فيها الأخضر الزاهي بالبرتقالي الوحشي ليكتشف أن اللقطة الافتتاحية تحتوي على جينات العمل درامياً وفكرياً وبصرياً وفلسفياً، فاللقطة الأولى المصحوبة بالأغنية الشهيرة –التي تتحدث عن النهاية في بداية الفيلم وهو تناقض مقصود- كأنها إجمال قبل تفصيل ومحصلة نهائية قبل الشروع في الرحلة الدموية الرهيبة داخل غابات الفيت كونج، وهو ما يجعل بناء الفيلم مجازياً بناءً دائرياً نسبياً، فهو يبدأ ملخصاً الرحلة بأن أمريكا بوابة من بوابات الجحيم على العالم، فها هي طائرتها تدمر الأخضر-الروح الثابتة التي لا تملك دفاعاً عن نفسها- وطوال الفيلم لا نرى عكس ذلك، بل نتأكد منه، ونطمئن إلى ما قدمته الافتتاحية، وصولاً إلى النهاية التي ليست في ذروتها إلّا وصلاً مع البداية وكأننا في عودة مستمرة لا فكاك منها أو Loop بالتعبير الإنجليزي.
ما قبل التوترات
في حين أن (القيامة الآن) لا يبدأ بالعناوين، ولا يوجد لديه شارة تحمل أسماء فريق العمل، إلا أن ثمة أفلاماً تبدأ بمشاهد ما قبل العناوين أو التوترات فيما يعرف بالأفان تيتر Avant-titre وهو مصطلح فرنسي يعني ما قبل الشارة أو ما قبل عناوين الفيلم، وساعتها تصبح افتتاحية الفيلم هي هذه المشاهد ثم التيترات وما بعدها، أي تصبح التيترات أو الشارة جزءاً من الافتتاحية، ويرتبط مجموع هذه العناصر ببنية الفيلم على مستوى الدراما والصورة والنوع، وعلى سبيل المثال لدينا الفيلم المصري (حكايات الغريب) من إنتاج التسعينيات وإخراج إنعام محمد علي وكتابة محمد حلمي هلال عن رواية جمال الغيطاني.
في اللقطة الأولى من الفيلم نرى يداً تبحث داخل أضابير من الملفات إلى أن تقع على ملف بعينه، تسحبه وتنفض من عليه التراب، ثم نسمع صوت صاحب اليد يقول من خارج الكادر (أنت فين يا سي عبده دوختنا)، مستعرضاً صورة شاب بالأبيض والأسود موجودة في ملف خدمته التي كانت اليد تبحث عنه.
لدينا إذن من اللقطة الأولى عملية بحث ونفض تربة عن ملف شخص مفقود أو مفتقد، هذا الشخص بعد أن تتشكل القصة ندرك أن الحكايات كلها تدور حول اختفائه الغريب منذ نهاية الحرب – من هنا يأتي عنوان الفيلم والقصة (حكايات الغريب) - هذا الشخص واسمه عبد الرحمن محمود عبد الرحمن كان يعمل سائقاً على إحدى سيارات توزيع الصحف إبان الحرب على مدينة السويس المصرية، وذات ليلة دخل المدينة قبل حصارها من قبل الإسرائيليين واختفى بعدها، وعندما توجهت لجنة من المؤسسة الصحفية التي يعمل بها ومعها مجموعة من أصدقائه للبحث عنه يبدأ أهل المدينة في التعرف على صورته، ولكنهم يطلقون عليه أسماء مختلفة، ويحكون عنه قصص بطولية وأسطورية خارقة حول كيفية تصديه للعدوان الغاشم على المدينة وقت حصار ما عرف بحرب الـ 100 يوم، وذلك في تناقض كبير مع كونه في الأساس شخص مسالم وهش البنية النفسية والجسدية، وبعد أن تيأس المجموعة من التوصل إلى سر اختفائه أو الطريق إلى معرفة مصيره ينتهي الفيلم كما بدأ (أنت فين يا سي عبده دوختنا)، لتصبح اللقطة الأولى ليست فقط مرتبطة بحبر سري جيني بين مشاهد وفصول الفيلم المختلفة – رحلة البحث- ولكنها أيضا تحقق بناء دائرياً مقصوداً وهو أن الطرح الفيلمي لا يعنيه الوصول بقدر ما يعنيه البحث عن الشخصية المصرية التي، وإن كانت تبدو في واقعها مهزومة ومحطمة ومنكسرة على المستوى المادي والاجتماعي، بل والعاطفي إلا أنها تهب لحظة نداء الوطن والواجب لو دبت قدم غريبة على أرضها، وأن هذه الشخصية الرائعة الأسطورية مفتقدة من وقت أن انتهت الحرب، وأن محاولة استعادتها هو جزء من ترميم الحاضر وبناء المستقبل.
وبمناسبة الحديث عن التوترات كجزء من مقدمات الأفلام يمكن للمهتم أن يعيد مشاهدة تغيرات فيلمين مهمين من الإنتاجات الكلاسيكية المصرية هما (الكيت كات) من إخراج داود عبد السيد 1991 و(الاختيار) ليوسف شاهين إنتاج 1970، والذي يعتبر نموذجاً مثالياً للوقوف على كيفية أن تصبح التيارات هي افتتاحية الفيلم الحقيقية، حيث يقوم تيتر – الذي صممه الثنائي حسيب ونوال، ووضع موسيقاه التصويرية علي إسماعيل متخذاً من صفارة البحارة الشهيرة تيمة أساسية في ألحان وتوزيع الموسيقى- بتقديم ملخص كامل للقصة والأزمة والنوع والحالة النفسية والفلسفية التي يطرح من خلالها الفيلم أزمة المثقف المزدوج مستوحياً القصة التراثية عن قابيل وهابيل.
أما (الكيت كات) – والذي صممت تيتره نوال بمفردها- فتأتي التيترات على شاشة سوداء – لأن بطل الفيلم الشيخ حسني هو رجل ضرير- بينما الأسماء مكتوبة بخطوط ناعمة وملونة – كأنها بصيرته التي يرى من خلالها وسط هذا الظلام- في حين تصاحب التيترات أغنية بصوت الفنان محمود عبد العزيز مودي الشخصية وهي أغنية (البلبل غنى) من تلحين سيد مكاوي وهو موسيقار ومطرب مصري ضرير- مثل بطل الفيلم- وتتحدث عن سهرة حلوة بين مجموعة أصدقاء حتى طلوع الصبح.
وتشكل تيترات الفيلم جزءاً مهماً من تهيئة المتلقي للمجاز الخاص ببصيرة الشيخ حسني كما أشرنا وهي البصيرة التي تمنحه قوة شخصية ونفوذ شعبوي قوياً على المنطقة التي يسكن بها في حي إمبابة بالقاهرة وتحديداً شارع (الكيت كيت) – الفيلم مأخوذ عن رواية إبراهيم أصلان مالك الحزين، والتي تدور أحداثها في الشارع المذكور.
ثم تبدأ اللقطة الأولى للفيلم بأقدام اثنين من عساكر الدورية الليلية، وهم يمران بتكاسل أمام بيت عتيق، ومنه ننتقل إلى دكان مغلق أسفل البيت يتخذه الشيخ حسني وصحبته وكراً لتعاطي الحشيش والسهرة الحلوة كل ليلة (للصبح ليس إلّا) كما تقول أغنية التوتر.
يتمكن البناء الفيلمي هنا من تحقيق تماسك مستغلاً تيترات الفيلم التي يمكن بسهولة ودون أي محاولة قسرية للربط أن نجدها متصلة بشكل مجازي وشعري واضح مع طبيعة الشيخ حسني وحركته الدرامية وسلوكه الشخصي والاجتماعي، بل وموقفه الفلسفي من الحياة والوجود الذي لا يراه بعينه، ولكنه يملك ما هو أكثر من العين لرؤية ما خلف الوجوه وما تخبئه الأنفاس وإيماءات الملامح.
أما البيت الذي يظهر في اللقطة الأولى عقب التوترات مباشرة فهو محور الصراع الظاهري في الفيلم، حيث يحاول المعلم رمضان وهو رأسمالي عديم الرحمة انتزاع كافة بيوت الشارع من أجل هدمها وبناء أبراج سكنية عالية وغالية الثمن، بينما يرغب يوسف ابن الشيخ حسني في بيع البيت من أجل أن يسافر إلى الخارج لبناء مستقبله، في حين أن البيت نفسه باعه الشيخ حسني لتاجر المخدرات بالمنطقة – المدعو بالهرم- مقابل جرعات من الحشيش الذي يتعاطاه كل ليلة لكي يغرق همومه، ويكسر قضبان الظلام التي أغلقت عينيه منذ أن كان صبيا، حين تجرأ ومد عينيه إلى حسد فتاة تستحم على شاطئ النيل.
الحديث عن مقدمات الأفلام وافتتاحيتها التي ترتبط ببنائها ومحصلة سرديتها حديث طويل يحتاج إلى أكثر من مجرد محاضرة أو مقال، ولكننا أردنا بهذا الطرح المختصر أن نحفز النظر إلى الفرضية التي شكلت سؤال البداية التي انطلقنا منه، وهي فرضية تحفيزية ليس الغرض منها إثبات تقني أو علمي بقدر ما هي محاولة لخلق مساحة لمزيد من الرصد للطموحات الجمالية المستترة وراء عملية صناعة الأفلام وصياغتها إبداعياً.